مثل انتشار جائحة كوفيد 19 مصدر قلق في مختلف أنحاء العالم وتصدرت أخبار الجائحة وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي بلا منازع. فلا عجب من إنتشار الخوف من الوباء على هذا النطاق خاصة أن هذا الفيروس المستجد لم يكن معروفا في السابق. كما ساد الإعتقاد بأن الأوبئة المعدية أصبحت جزءًا من الماضي. فقد تمكنت البشرية من تحقيق تطور طبي وعلمي منقطع النظير. كما توفرت الظروف الحياتية الملائمة للصحة الجيدة من الماء الصالح للشراب والأطعمة الموازنة علاوة على الرعاية الصحية وتوفر سبل الرفاهية. لذلك تبدو العديد من الأمراض المميتة كالجدري، شلل الأطفال والكزاز جزءاً من غياهب التاريخ أصبح بيننا وبينها أمد بعيد. فبفضل التلقيح وتطور الطب الحديث، أصبحت السيطرة على الأوبئة التي أ ّرقت مضاجع أجدادنا أمرا يسيرا لكننا فوجئنا بقوة الطبيعة مجددا وأن الحرب ضد الأمراض المعدية لم تنته بعد كما اعتقدنا.
1 .الصدمة الجماعية الناجمة عن جائحة كورونا
لم تضطرنا الأوبئة التي عاصرناها حديثا كإنفلونزا الخنازير والطيور إلى تغيير نمط حياتنا بشكل جذري فلم تستدع السيطرة على هذه الأمراض إعلان حالات الطوارئ على نطاق عالمي وفرض حجر صحي علاوة على إغلاق مختلف الحدود ومنع التجمعات وغيرها من الإجراءات الصارمة.
تشكل الأزمة الصحية ظرفا إستثنائياً قد يبدو فريداً من نوعه ولكن رغم شعورنا بأننا نمّر بظرف استثنائي لا سابق له فقد عرفت اإلنسانية العديد من الأوبئة المميتة عبر تاريخها. بل وكانت هذه الأوبئة أشدّ ضراوة وفتكا. كما أن مصائب البشرية لم تقتصر على انتشار الأوبئة فحسب، فقد عرفت الإنسانية العديد من الحروب الضارية، مجاعات وكوارث طبيعية. ولكن لئن تباينت مخلفات الأزمات التي مّر بها الإنسان على مدى التاريخ فإنها تشترك في مجملها بأن البشرية تمكنت من النهوض مجددا فقد رغم الخسائر البشرية والمادية. فقد عاش الإنسان في العصور الغابرة أزمات أشدّ حدّة لكن البشرية برهنت على قدرتها على الصمود والتكيف مع مختلف الكوارث.
في سنة 1914 اندلعت الحرب العالمية الأولى وحصدت الأرواح حصدا إذ أودت بحياة 18 مليون شخص علاوة على الملايين من الجرحى والأضرار المادية الفادحة. ما كادت الحرب تضع أوزارها سنة 1918 حتى ظهرت الإنفلونزا الإسبانية لتحصد أرواح 50 مليون قتيلا. وما كاد العالم أن يتعافى من الصدمات المتتالية حتى فوجئ بالكساد الكبير بعد انهيار سوق الأسهم الأمريكية يوم 29 أكتوبر سنة 1929 والذي ُعرف بالثلاثاء الأسود. كانت آثار الأزمة الاقتصادية كارثية على مختلف الدول اذ تراجعت التجارة ومعدل الدخل الفردي على نطاق عالمي. انتهت الأزمة أخيراً في نهاية الثلاثينات من القرن العشرين. ولكن انفراج الأزمة قد تزامن مع اندلاع الحرب العالمية الثانية التي تسببت في مقتل بين 50 و60 مليون شخص بينهم 45 مليون من المدنيين. إضافة إلى الخسائر البشرية، تسببت الحرب في صدمات نفسية عميقة وآثار خطيرة على البنية التحتية العالمية والاقتصاد.
تمثل هذه الأزمات والكوارث التي عاصرها أجدادنا مصدرا لما يُعرف ب “الصدمة الجماعية” . ومن خصائص الصدمات الجماعية أنها لا تعترف بمضي الزمن فهي باقية كما لو أن الأمر الُمسبّب للصدمة قد حدث للتّو.
2 .كيف أسيطر على الهلع الناجم عن الجائحة؟
ينبغي أولا أن نفهم أسباب الهلع حتى نتمكن من السيطرة عليه. إن الخوف ناجم في معظم الأحيان عن القلق على سلامة الأحباء ومخلفات الفيروس المحتملة. وغالبا تكون هذه الأسباب منبع قلق أكثر من خطر الإصابة بالفيروس ذاته. يمكن تفسير شعورنا بالقلق بعدّة عوامل. إذ ينتج هذا القلق عما يُعرف بالصدمة الجماعية وما عايشته البشرية من مصائب من قبل. فهو نتاج تراكمات لخوف اجتماعي متكرر عبر التاريخ وبقيت آثاره الخفية على المجتمعات. كما ينبع هذا الخوف من خشية حصول العدوى ونقل الفيروس إلى الغير وهو ما ينتج شعورا بالذنب يضاعف الاحساس بالهلع. فالخوف من التسبب بإصابة الغير وخاصة الأقارب، الوالدين أو كبار السن في العائلة قد يتجاوز الخوف من الإصابة ذاتها.
إضافة إلى ذلك، تمثل الآثار الاجتماعية والاقتصادية مصادر قلق أساسية. فقد تسبب الحجر الصحي في خسائر اقتصادية كبرى وتضر ّرت العديد من القطاعات والمؤسسات. كما اضطرت العديد من المتاجر والمنشآت غير الحيوية إلى إغلاق أبوابها.
نظراً لحجم الأزمة ومخلفاتها، من الطبيعي أن تتصدر أخبار الجائحة وسائل الإعلام والتواصل االجتماعي. ولعل اعتماد الحجر الصحي وحضر التجول يجعلنا أكثر إقبالًا على وسائل التواصل لكسر عزلتنا. ولا شك ّ أن المحتوى الذي نتابعه يتناول الجائحة في أحيان كثيرة. لكن الإفراط في متابعة الأخبار يساهم في تنامي القلق المرضي خاصة وأن تراجع فرص تحقيق نجاحات جديدة واقتصار حياتنا الاجتماعية على الروتين اليومي والأعمال المنزلية يؤثران سلبا على صحتنا النفسية.
في هذه الظروف الخاصة، ينبغي العناية بصحتنا النفسية وصحة المحيطين بنا. فالتباعد الاجتماعي ينبغي أن يكون بالأحرى تباعدا جسديا. اننا نحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى التقارب الاجتماعي والإنساني. من بين سبل العناية بصحتنا النفسية متابعة مصادر اخبارية موثوقة وتحديد وقت خاص معقول لمتابعة أحدث المستجدات. فالإفراط في متابعة ارتفاع عدد المصابين والوفيات لا يحمي من الوباء بل يهدد سلامتنا النفسية.
من الضروري أيضا الاعتدال في اتباع سبل الوقاية. فالاستهتار بالفيروس قد يسبب آثاراً وخيمة ويساهم في انتشار بؤر الإصابة بينما يهدد الخوف المبالغ فيه صحتنا النفسية. علينا الالتزام بسبل الوقاية دون إفراط ولا تفريط. فينبغي أن:
- نحترم مسافة تباعد جسدي تبلغ متراً على الأقل قدر الإمكان.
- نغسل اليدين بالماء والصابون بانتظام ولمدة 30 ثانية على الأقل.
- نتجنب ملامسة العينين، الأنف والفم.
- نقوم بارتداء غطاء الوجه القماشي وغسله جيدا بانتظام.
- نستعمل المناديل الورقية عند السعال والعطس والتخلص منها فورا في سلة المهملات أو اعتماد الكوع المثني إذا لم تتوفر المناديل.
- نتجنب التجمعات غير الضرورية.
3 .نمو ما بعد الصدمة: نمو متجدد للبشرية؟
من بين سبل السيطرة على القلق أيضاً الوعي بقدرة البشرية على التأقلم والنهوض بعد الأزمات العالمية. كما ينبغي أن ندرك كذلك أن تجارب الصدمة غالباً ما تترك أثراً إيجابيا على المدى الطويل. فالتعرض للصدمات يجعلنا نكرس كل طاقاتنا ومواردنا لتجاوزها. ينتج عن هذه التجربة غالبا نوع من النمو الإيجابي الذي يُعرف بنمو ما بعد الصدمة إذ يتمكن الإنسان من التكيف مع الأزمة عبر تنمية سبل مواجهتها. هكذا يصبح الإنسان بعد مرور الأزمة أكثر قوة ويكتسب قدرة أكبر على مواجهة الظروف الصعبة.
كما تدفعنا الأزمات إلى التفكير في كيفية خوضنا للتجربة وتساهم في فهم أفضل للذات، للآخرين والعالم. فنتمكن من تحقيق نمو ذاتي إذ نكتشف قدرات ذاتية مذهلة على التكيف. كما نحقق أيضاً نموا اجتماعيا ناجماً عن الوعي بقيمة العلاقات، الاهتمام العائلي ودور الأصدقاء. نكتسب كذلك نموا روحيا إذ نصبح أكثرا وعياً بأهمية النعم في حياتنا كالصحة، العائلة والأصدقاء والحياة اليومية الطبيعية.
لا شك أن الجائحة قد قلبت حياتنا رأسا على عقب وأن لها آثار اقتصادية واجتماعية حادة. لكن الإنسانية برهنت على مدى التاريخ قدرتها على الصمود أمام أكثر الأوبئة ضراوة وغيرها من الحروب والكوارث المدمرة. فلا شك ّ أننا قادرون على الصمود بل وتحقيق النمو. ينبغي إذا اتباع سبل الوقاية، كما ينبغي الاعتناء بتوازننا النفسي والتآزر العائلي والاجتماعي حتى نتمكن من تجاوز الأزمة.
هكذا قيّم مستعملون آخرون المقال