منذ إعلان رئيس الجمهورية عن مبادرته بمشروع المصالحة في جويلية 2015، أعربت عديد مكونات المجتمع المدني والمجتمع الدولي عن رفضها لمشروع قانون المصالحة مع كل من تورط في نهب المال العام والفساد في عهد بن علي، باعتبار أن المصالحة الاقتصادية والمالية، حسب الصيغة المقترحة، يمكن أن تتسبب في إفشال مسار العدالة الانتقالية. حيث لا يمكن الحديث عن عدالة انتقالية تغيب عنها المحاسبة، فالمصالحة تكون كنتيجة لنجاح مسار العدالة الانتقالية ككل من كشف للحقيقة وجبر للضرر المادي والمعنوي ورد للاعتبار، ومحاسبة، وإصلاح للمؤسسات.
وأجمع رافضو مشروع المصالحة وعلى رأسهم جمعيات ومنظمات وطنية ودولية أن المصالحة المطروحة في المبادرة ماهي إلا تهديد واضح لمكتسبات الثورة وعودة إلى الوراء مادامت هناك نية لإفلات رؤوس الفساد من المحاسبة، بتعلة أن هذا الأمر من شأنه أن يعيد الحركية الاقتصادية وسيحل العديد من الإشكاليات وعلى رأسها خلق مواطن الشغل.
ونظرا لكون المبادرة التي تحمل اليوم صيغة مشروع قانون أساسي متعلق بإجراءات خاصة بالمصالحة الاقتصادية والاجتماعية، معروضة حاليا على النقاش داخل مجلس نواب الشعب باعتبارها ذات أولوية، من الممكن والمتوقع عرضها على الجلسات العامة للنقاش والتصويت في القريب، لذلك فقد تكاتفت جهود بعض مكونات المجتمع المدني واتحدت من أجل التصدي لهذا المشروع.
فعلى إثر بيان مشترك لبعض المنظمات والجمعيات، وعلى إثر مجهودات المجتمع المدني في إبطال المبادرة، تم يوم الجمعة 15 جويلية عقد ندوة صحفية، في إطار حملة #ما يتعداش، بتنظيم 24 منظمة وجمعية وهي كالآتي:
محامون بلا حدود ،المنظمة العالمية لمناهضة التعذيب، الجمعية التونسية للدفاع عن الحريات الفردية، المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية و الاجتماعية، جمعية الدفاع عن حقوق الإنسان ، جمعية بوصلة، التنسيقية الوطنية المستقلة للعدالة الانتقالية ، الشبكة التونسية للعدالة الانتقالية، القطب المدني للتنمية وحقوق الإنسان ، جمعية الكرامة ، جمعية تونسيات ،جمعية العدالة وردّ الاعتبار ، المرصد التونسي لإستقلال القضاء ، الجمعية التونسية لقانون التنمية ، المركز التونسي المتوسطي، مخبر الديمقراطية، جمعية أشبال خمير، جمعية خمير للبيئة و التنمية، جمعية النساء التونسيات للبحث حول التنمية، نساء تونسيات، شبكة العدالة الإنتقالية للنساء أيضا، مركز دعم للتحول الديمقراطي وحقوق الإنسان. وبالتعاون مع المنظمات الدولية التالية: المفوضية السامية لحقوق الانسان، والمركز الدولي للعدالة الانتقالية، والبرنامج الإنمائي للأمم المتحدة، ومحامون بلا حدود، والمنظمة العالمية لمناهضة التعذيب، وهيومن رايتس ووتش، ومنظمة العفو الدولية فرع تونس.
وكانت الندوة الصحفية فرصة لتقديم تصور حول نص هذا المشروع، من حيث عدم دستوريته وتعارضه مع أهداف العدالة الانتقالية، وتهميشه للضحية في حال أنها المحور الأساسي للعدالة الانتقالية وبالتالي خرقه لقانون العدالة الانتقالية ككل.
وفي هذا الإطار استنكر السيد عمر الصفراوي عن المرصد التونسي للعدالة الانتقالية، أن تكون هذه المبادرة متأتية من رئيس الجمهورية الذي أقسم على حماية البلاد والالتزام باحترام الدستور عوض أن يأتي بمبادرة لا دستورية خارقة للقانون ولا تخدم مصلحة أحد سوى فئة معينة متورطة في الفساد بل وتشرّع له. كما أن طرح هذا المشروع في مثل هذه الفترة الصيفية أمر يذكّر بممارسات عهد بائد أي بتمرير برلمان بن علي في أوقات مدروسة (موسم الصيف وعطل) تلك المشاريع التي لا يمكن المصادقة عليها في الأوقات العادية، مع الإشارة أن هذا المشروع يفتك جزءا من صلاحيات هيئة الحقيقة والكرامة التي تمكنت أخيرا نسبيا من الحصول على ثقة الضحايا. وعبر السيد عمر الصفراوي عن مخاوفه من رجوع الممارسات السابقة ودخول تونس في حالة من الاحتقان والفوضى أو من أن يتم النيل من سمعة تونس على الصعيد الدولي في حال لم يسحب رئيس الجمهورية المشروع، وإذا ما تمت المصادقة عليه من قبل مجلس نواب الشعب. وختم مداخلته بالتذكير بالفصل 148 من الدستور حول التزام الدولة بتطبيق منظومة العدالة الانتقالية في مدتها وفي مجالاتها، والإشارة لإشكالية فرضية أن يكون رئيس الجمهورية المتحصل على الحصانة طيلة الفترة الرئاسية هو نفسه متورط في شبهة فساد.
من جهته، بيّن السيد أنطونيو منقانلا Antonio Manganella عن محامون بلا حدود، عدم دستورية مشروع القانون ومخالفته لروح وفلسفة العدالة الانتقالية طبقا للقانون عدد 53 مبينا أن المشروع بصدد الدرس داخل مجلس نواب الشعب وهو ما يؤكد أن طرح هذا المشروع مازال قائما. كما أوضح التناقض بين الأهداف المعلنة في نص المشروع والإجراءات والتدابير التي يتضمنها: فمن جهة، يشير الفصل الأول من الصيغة الحالية لمشروع القانون أن هذا القانون “يندرج في إطار تدعيم منظومة العدالة الانتقالية وتهيئة مناخ ملائم يشجع على الاستثمار وينهض بالاقتصاد الوطني ويعزز الثقة بمؤسسات الدولة”. ومن جهة أخرى، ينص القانون على 3 تدابير مناقضة للأهداف المعلنة وهي: إقرار عفو عام في حق موظفين عموميين وأشباههم من أجل أفعال تتعلق بالفساد المالي والاعتداء على المال العام، إقرار عفو عام في حق مرتكبي عدد من مخالفات الصرف، إقرار إمكانية الصلح لفائدة الأشخاص الحاصلين على منفعة جرّاء أفعال تتعلق بالفساد المالي أو الاعتداء على المال العام. وبين السيد مانقانلا أن مشروع القانون غير دستوري لما فيه من اخلال بالفصلين 10 و148 من الدستور المتعلقين بالتزام الدولة بالعمل على منع الفساد وبتطبيق منظومة العدالة الانتقالية في كل مجالاتها. هذا وأشاد في الختام بمجهودات المجتمع المدني وتمسكه بقضايا مجتمعه ومشاركته في الحراك الميداني مؤكدا على أهمية توحيد الصفوف نظرا لعمق الملف وخطورة تداعياته في إشارة لقضية جمعية أنا يقظ.
أما السيد كريم عبد السلام عن جمعية العدالة ورد الاعتبار فقد استهل مداخلته بالتعريج على الاخلالات القانونية للمشروع الذي اعتبره مغالطة مفهومية لأن المصالحة في الأصل مفهوم سياسي وليس قانونيا واستنكر الاحجام عن التسمية القانونية الأصلية المتمثلة في “عفو حول مرتكبي الفساد المالي”. وفي بحثه في الإطار المنطقي القانوني للمشروع، اتضح له أن كل التشريعات وترسانة القوانين لا تمت له بصلة ولا نجد أي توافق معه. إنما يذكر هذا المشروع بالفصل 227 مكرر في المجلة الجنائية الذي “يكافئ الجريمة” ويفصل في جريمة مواقعة الفتاة دون 16 سنة بالزواج. فحتى من حيث القيمة القانون، فقد اتخذ هذا المشروع صيغة “قانون أساسي” في حين أن مراعاة مصلحة الضحايا عادة ما تكون في شكل أوامر ومراسيم وإجراءات عادية وهو أمر ذو أبعاد رمزية لا بد من الوعي بها. وبين مخاطبنا أن المشروع يتعارض مع مصلحة الضحايا ومن شأنه أن يتسبب، إذا تمت المصادقة عليه، في تهديد السلم الاجتماعي.
أما السيد محمد كمال الغربي عن الشبكة التونسية للعدالة الانتقالية، فقد استنكر أن تكون أول مبادرة تشريعية لرئيس الجمهورية مبادرة تحصين وتبييض للفساد عوض القطع معه وعبر بدوره عن تضامنه مع جمعية أنا يقظ في حربها ضد الفساد وضد الحملة الشرسة التي تطالها. كما أكد أن المعركة ضد هذا المشروع هي معركة كرامة وسيتم مواصلة خوضها بكل الأشكال المتاحة. وأشار إلى دراسة قام بها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي حول العدالة الانتقالية مفادها أن 96,9% من المواطنين المستجوبين أنهم يرون ضرورة في كشف كل الحقيقة، أكثر من ثلثي التونسيين المستجوبين يرون في معالجة الجرائم الاقتصادية والفساد المالي مدخل البناء الديمقراطي كما أن 97,3% من نفس الفئة أجمعوا أن مكافحة الفساد جزء من العدالة الانتقالية في أهدافها الأولية، وأخيرا أقر 98% من نفس العينة أنهم مع إحداث إجراءات لغربلة المؤسسات من الأشخاص المتورطين في ملفات فساد، الأمر الذي إن دل على شيء فهو الوعي المواطني بضرورة تطبيق منظومة العدالة الانتقالية كاملة. وبالعودة لقانون العدالة الانتقالية، يشير الفصل الثامن إلى أن القضايا المتعلقة بالفساد المالي وإنهاك المال العام من مشمولات الدوائر القضائية المتخصصة، كذلك لقد سبق أن تعرّض الفصل 45 لآلية المصالحة والتحكيم ونظمها. فالنتيجة هي أن مشروع المصالحة يتعارض مع كل من قانون العدالة الانتقالية في عمقه وأيضا مع الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد التي تجرم الاعتداء على المال العام والفساد المالي، وكذلك مع الدستور، ومع إرادة المجتمع المدني، وإرادة الشعب.
ونظرا لعمق قضية المصالحة، وتوجه مختلف مكونات المجتمع المدني نحو العمل المشترك والنضال المشترك للوقوف صفا واحدا ضدا مشروع قانون المصالحة، ينتظر توسع دائرة الجمعيات والمنظمات المناهضة لهذه المبادرة. وفي هذا السياق أعلنت السيدة روضة العبيدي عن جمعية القضاة التونسيين، انتماء هذه الأخيرة للائتلاف المناهض للمشروع إيمانا بأهمية دور القضاء في التصدي له. وتجدر الإشارة إلى أن الجمعية قدمت بدورها دراسة للقانون وبيانا ينص على مخالفته للدستور وللمعايير الدولية ولقانون العدالة الانتقالية. وأشارت السيدة العبيدي إلى أهمية اعلان موقف هيئة مكافحة الفساد عن موقفها في هذا الشأن. أما السيدة كلثوم بدر الدين، عن جمعية يقظة، فقد سجلت أيضا انضمام الجمعية لمبادرة التصدي لمشروع المصالحة، باعتباره ذو خطورة كبيرة على الوضع الحالي للبلاد ويهدد المستقبل على حد سواء، على أمل أن يلقى المشروع الرفض من قبل مجلس نواب الشعب.
ويذكر أن مبادرة المجتمع المدني في التصدي لمشروع قانون المصالحة قد أصدرت بداية بيانا توضيحيا إلى الرأي العام حول رفضها له ومطالبتها التخلي عنه. وما هذه الندوة الصحفية إلا أحد أشكال مواصلة النضال ضد المشروع بالإضافة للمشاركة بمسيرة مانيش مسامح التي انطلقت عشية نفس اليوم من أمام مقر الاتحاد العام التونسي للشغل بساحة محمد علي بتونس العاصمة. هذه المسيرة التي لاقت النجاح حيث جمعت عددا كبيرا من المواطنين من مختلف الشرائح العمرية وعلى رأسهم الشباب فضلا عن ممثلين عن الجمعيات والمنظمات والأحزاب السياسية المعارضة. ولقد نادى المتظاهرون لإسقاط منظومة الفساد ولإسقاط مشروع القانون الذي يعتبره المتظاهرون ضربا للدستور ولمسار العدالة الانتقالية لما فيه من تبييض للفساد. وارتفعت خلال المسيرة أصوات المنددين بمشروع المصالحة منادين بشعارات سلمية على غرار: “الشعب يريد إسقاط الفساد”، “لا مكان في البلاد يا عصابة السراق”، “ماناش مسامحين”، “كي نتحاسبو تو نتصالحو”، “شعب تونس شعب حر والقانون لن يمر”، “المعاقبة استحقاق يا عصابة السراق”، “المقاومة هي هي يا سراق الميزانية”… ويشار إلى أن حملة مانيش مسامح لن تتوقف على هذه المسيرة، وإنما أعلنت تواصل التحركات الميدانية ببعض جهات الجمهورية لتكون التحركات على مستوى وطني موسع كوسيلة للضغط.
مشروع هذا القانون الأساسي عدد 49 لسنة 2015 المتعلق بإجراءات خاصة بالمصالحة الاقتصادية والمالية هو الآن بصدد الدرس داخل لجنة التشريع العام بمجلس نواب الشعب التي عقدت بعض الاجتماعات لمناقشته وشرعت في القيام باستماعات حوله. والآن ينتظر الجميع معرفة مآل هذا المشروع المرجو إسقاطه. وفي الأثناء تتواصل جهود المجتمع المدني في مسيرته النضالية ضد المشروع وضد الفساد.
Organismes concernés
Voila ce que les autres utilisateurs ont pensé de cet article