منذ سنوات، تحوّل الفضاء الرقمي في تونس إلى ساحة لجدل دستوري وحقوقي عميق، محوره المرسوم عدد 54 لسنة 2022 الخاص بالجرائم السيبرانية، هذا المرسوم الذي أُقرّ في سياق عالمي لحماية البنى التحتية من التهديدات الإلكترونية أفرز اليوم إشكاليات خطيرة على المستوى المحلي لعل أبرزها التخوّف من تقييد الحريات الفردية وحرية التعبير، ويأتي في صلب هذا الجدل الفصل 24 الذي أصبح الأداة الأكثر استخداماً في ملاحقة الأصوات النقدية من صحفيين ومدونين وغيرهم من نشطاء المجتمع المدني أو المواطنين
حيث وعلى الرغم من أن تونس كانت قد أرست رؤية متقدمة للتحول الرقمي والحقوق في “مسار طبرقة“ سنة 2014 بمشاركة واسعة من المجتمع المدني والفاعلين التقنيين لضمان إطار قانوني يحمي الحقوق الرقمية إلا أن المرسوم 54 صدر بنصوص بدت وكأنها مستنسخة جزئياً من اتفاقيات دولية كـ “اتفاقية بودابست“، دون تحقيق المشاركة الكافية أو توفير الضمانات اللازمة التي تحترم خصوصية السياق التونسي وحماية حقوق الإنسان
من الناحية المبدئية، تتفق جميع الأطراف على أن أي دولة حديثة تسعى لمواكبة التطورات التكنولوجية تحتاج إلى إطار قانوني فعّال للتعامل مع الجرائم السيبرانية العابرة للحدود، حيث حاولت البلاد التونسية على غرار الدول الأخرى بدورها تحقيق هذا الهدف عبر المرسوم 54
لكن الملاحظات المستخلصة من التطبيق العملي للمرسوم منذ عام 2022، أكدت أن النقاش لم يعد يدور حول المرسوم ككل، بل تحوّل ليتركز على نقطة محورية واحدة ألا وهي فصوله الفرعية وأهمها ” الفصل 24 حيث أصبح هذا الفصل الأداة الأكثر استعمالاً في الملاحقات القضائية الأمر الذي أثار مخاوف جدية من أن يتحوّل المرسوم الذي صيغ أصلاً لمكافحة الجريمة المنظمة، إلى أداة لتقييد الحريات الفردية وحرية التعبير ويكمن الخطر في :
غموض المصطلحات: يرى الخبراء أن الفصل 24 يتضمن تعابير “فضفاضة“ تفتح الباب لتأويلات واسعة، خاصة عند تطبيقها على تدوينات الرأي أو النقد العادي على منصات التواصل الاجتماعي
-
-
- تهديد حرية التعبير: هذا الغموض، المقترن بـ العقوبات الزاجرة القاسية (كالسجن والغرامات المالية)، يثير تخوفاً كبيراً من استغلال القانون لملاحقة الصحفيين والمدونين والنشطاء، ما يُنذر بعودة البلاد إلى مربع التضييق على الرأي والرقابة الذاتية.
-
بالإضافة إلى إشكالية الفصل 24، كشفت النقاشات عن وجود ثغرات هيكلية في التكامل القانوني الحالي تتعلق بالضمانات والتطبيق على غرار :
-
-
- ضعف الضمانات القضائية حيث يخشى النشطاء من أن يسمح القانون بتدخلات في الحياة الرقمية (مثل مراقبة الاتصالات أو حذف المحتوى) دون الحصول على إذن قضائي مسبق وواضح، وهو ما يُعد انتهاكاً مباشراً لمبادئ الخصوصية والحقوق الفردية.
- غياب مسؤولية المنصات فالقوانين التونسية الحالية لا تفرض التزامات واضحة وكافية على مشغلي الإنترنت والشركات الكبرى فيما يتعلق بمسؤوليتهم عن المحتوى الذي يُنشر ويُدرّ عليهم أرباحاً، الأمر الذي يُحمّل المواطن وحده مسؤولية محتوى الفضاء الرقمي
-
أمام هذا الوضع، أصبح الحل العملي، الذي نادى به المجتمع المدني وبعض النواب، هو الإصلاح التشريعي المتكامل بدلاً من الاكتفاء بالدعوة إلى الإلغاء الشامل الهدف هو صياغة إطار قانوني يحقق التوازن المطلوب بين الأمن والحقوق
وحيث تتجه المبادرة التشريعية الحالية نحو تحقيق الأهداف التالية :
-
-
- إلغاء الفصل 24: كخطوة أولى وحاسمة لرفع التهديد المباشر عن حرية التعبير.
- إضافة ضمانات قضائية: لضمان الحماية الكاملة للحقوق والحريات الفردية ومنع أي تدخل غير مشروع في البيانات والخصوصية.
- إصلاح الفصول الأخرى: لضمان موائمة النص التونسي مع المعايير الدولية والاتفاقيات الأممية الجديدة حول الجرائم السيبرانية.
-
إن تونس اليوم أمام منعطف حاسم يتطلب أكثر من مجرد مراجعة سريعة للمرسوم 54لا يسم أن المستقبل الرقمي للبلاد يفرض بناء منظومة قانونية متكاملة تضمن التوازن بين متطلبات الأمن وحماية الحقوق، هذه المنظومة تتطلب التركيز على محاور أساسية تشكل خارطة طريق للتحول الرقمي العادل
أولاً، يجب التركيز على حماية المواطن، وذلك عبر وضع قوانين واضحة لـحماية البيانات الشخصية وتوفير ضمانات قضائية صارمة تمنع أي انتهاك للخصوصية الفردية. ثانياً، لا بد من فرض مسؤولية المنصات، من خلال إلزام المنصات الرقمية الكبرى بتحمل مسؤولية قانونية واقتصادية عن المحتوى الذي يُنشر ويُستغل لتحقيق الأرباح. ثالثاً، لا يمكن إغفال أهمية التربية الرقمية، حيث يجب دمج مفاهيم الأمن الرقمي وحقوق المواطنة الرقمية في المناهج التعليمية والثقافة العامة لرفع الوعي المجتمعي. وأخيراً، يتطلب الأمر تحقيق التوافق الدولي، عبر المواءمة الكاملة للتشريعات الوطنية مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان وتسهيل التعاون الدولي الفعّال في مكافحة الجرائم العابرة للحدود.
إن المرسوم 54، في صورته الحالية، يعكس بوضوح أزمة ثقة وتوازنات تحتاج إلى إعادة ضبط عاجلة فالبلاد التونسية بحاجة ماسة إلى إطار قانوني قوي يضمن الأمان الرقمي للمواطنين ويحمي الاقتصاد الوطني، لكن يجب التأكيد بوضوح على أن هذا الأمان لا يمكن تحقيقه أبداً على حساب الحقوق والحريات الرقمية، يجب أن تكون المبادرات التشريعية القادمة فرصة تاريخية لبناء أساس متين وشفاف، يضع تونس في مصاف الدول التي تتبنى أفضل الممارسات الدولية في التوفيق بين ضرورة الأمن واحترام كرامة وحرية مواطنيها في الفضاء الرقمي
Voila ce que les autres utilisateurs ont pensé de cet article