يعتبر التلوث مصدر قلق عالمي بسبب عواقبه الوخيمة على البيئة و المحيط خاصة عند الحديث عن تلوث الهواء و البحر و المياه و الذي من أهم أسبابه الصناعات الملوثة وغير الصديقة للبيئة. هذا الوضع البيئي المتردي زاد في التأزم عالميا ووطنيا حيث احتلت تونس منذ عقود مراتب عالمية في إنتاج الفوسفات و تحويله و توجيهه نحو التصدير إذ كانت خامس أكبر مصدر للفوسفات عالميا سنة 2010 و يعتبر من أهم أرقام المعادلة الاقتصادية في تونس لكن هذا النمو الاقتصادي كان له ضريبة بيئية كارثية على مستوى ولاية قابس و الولايات المجاورة .
في سبعينات القرن الماضي تمركزت المجموعة الكيميائية التونسية في قابس بالقرب من البحر وهي قرابة 20 وحدة تصنيع و تصدير بما فيهم وحدات المجمع الكيميائي و التي تحول الفوسفات الى حمض الفوسفوريك الأسمدة .
لكن ضريبة هذا المنوال التنموي القائم على الصناعات الملوثة و التي لا تحترم البيئة جعلت العديد من المدن ملوثة و منكوبة نذكر من ذلك مدن الحوض المنجمي و صفاقس و قابس ..
تشهد بعض الملفات في تونس تردي في الوضع البيئي على غرار قطاع النفايات والبلاستيك والتلوث الصناعي الناجم عن القطاع الصناعي والطاقي. بدأت مخاطر التلوث في قابس مع إنشاء المجمع الكيميائي الذي ينتج مادة الفوسفوجيبس أي “جبس الفوسفات” و التي تلقى مخلفاتها في البحر منذ عقود وتسببت الغازات المنبعثة من وحداته في التلوث الجوي للمنطقة.
يتركز المجمع الكيميائي التونسي على شواطئ البحر، أين تتم الأنشطة الكيميائية والتحويلية مثل تكرير الفسفاط لاستخراج الحمض الفسفوري الذي يفرز بدوره فضلات خطيرة و التي يتم الإلقاء بها في البحر بمعدل يقدر بـ25 ألف طن يوميا وهي نسبة مرتفعة و كارثية حسب ما جاء به نشطاء في المجتمع المدني في قابس و حسب احصائيات منظمات بيئية وتصنف مادة الفوسفوجيبس مادة مشعة نظرا لاحتوائها على نسبة عالية من المعادن الصلبة كـ«اليورانيوم» و«الكادميوم» و«الرادون» .
أدى إلقاء الفوسفوجيبس إلى تدمير الثروة البحرية والذي ساهم في تضرّر الكائنات البحرية و تهديد جودة الحياة والأنشطة الزراعية والسياحية في المنطقة. كما ان الغازات المنبعثة ليلا نهارا من المجمع لوثت الهواء واصابت المواطنين بمختلف أعمارهم بالاختناق والأمراض.
كانت مدينة قابس معروفة منذ القدم بالثروة السمكية و جودة المنتجات الفلاحية كالرمان و أشجار الحناء و الواحات المطلة على البحر والتي تعتبر من أهم خاصياتها وهويتها التي بدأت في الاندثار منذ السبعينات . التلوث الصناعي و صب الفضلات الصناعية في البحر اضر بالكائنات البحرية مما أثر على قطاع الصيد البحري و كذلك بجمالية الجهة مما أدى إلى موت القطاع السياحي و تدهور القطاع الفلاحي و التنوع البيولوجي في المنطقة المجاورة للمجمع الكيميائي و أضر أكثر بالمائدة المائية في وضع تعاني منه البلاد من فقر مائي.
يعتبر المجمع الكيميائي ركيزة من ركائز الاقتصاد الوطني من خلال المردودية و الطاقة الشغيلة إلا أن مضار التلوث الصناعي في قابس أضرت بكل القطاعات الحيوية للمواطنين و بالتنمية في الجهة. قبل الثورة كان الحديث عن الملف البيئي في قابس من المحرمات لكن بعد سنة 2011 وضمانا لحرية التعبير و بالارتكاز على المواثيق الدولية التي أمضت عليها تونس و المبادئ الدستورية التي تضمن العيش في بيئة سليمة أصبح من الضروري فتح العديد من الملفات البيئة الشائكة والتي أثرت على الأجيال الحالية و ستؤثر على الأجيال القادمة إذا لم نتحرك.
رغم تأكيد الدولة على وعيها بالملف البيئي في قابس و على تهيئة البنية التحتية للمصانع التي نبه الخبراء إلى الأخطار الممكن حصولها و تشبيهها بانفجار بيروت إلا أن الإرادة السياسية في تونس لم تقدم على أي حلول و لم تنفذ وعودها من خلال تطبيق قرار 29 جوان 2017 القاضي بإيقاف سكب مادة الفوسفوجيبس في البحر و تفكيك الوحدات الملوثة التابعة للمجمع الكيميائي بقابس و إحداث مدينة صناعية صديقة للبيئة خارج مناطق العمران.
مؤخرا عاشت قابس على وقع كارثة الانفجار الذي جد في المنطقة الصناعية، تحديدا مصنع الإسفلت و الذي أدى الى مقتل 5 عمال و جريح. هذا الانفجار ليس الأول من نوعه حيث سبقه حريقان في مارس و افريل 2020 في مصنع الامونيتر. رغم تحذيرات النقابات العمالية والحركات البيئية من أجل تطوير وتطبيق معايير السلامة والبنية التحتية كل هذه العوامل من شأنها أن تنبئ بكارثة تعصف بالمدينة و تهدد حياة سكانها لكنها لم تحرك ساكن السلطات .
رغم الحملات و الاحتجاجات التي قادها المجتمع المدني في عديد المدن التونسية تنديدا بالتلوث الصناعي مثل حملة نحب نعيش stop pollution و التي نددت بحادثة الانفجار التي وقعت مؤخرا في قابس و خلفت ضحايا، بإمكانها أن تقع مجددا في صورة تواصل أنشطة المجمع الذي تسبب في تلويث البيئة كما طالبت بضرورة إرساء منوال تنموي جديد في جهة قابس يحترم البيئة ويراعي صحة الإنسان و حق المواطن في العيش في بيئة سليمة و بالعدالة البيئية و المناخية.
التلوث الصناعي في قابس ليست مسألة جهة بعينها بل هي مسالة وطنية وجب الوقوف عليها. ذلك أن أضرار التلوث الصناعي لا تعترف بالحدود الجغرافية ولا يمكن الحد منها في حيز زمني صغير وستكون آثارها كارثية مع تواصل سكوت الدولة عنها بل ستصبح جريمة دولة باعتبار أن المجمع الكيميائي شركة عمومية.
Voila ce que les autres utilisateurs ont pensé de cet article
Ingénieux 0 %
Persuasif 0 %
Drôle 0 %
Informatif 0 %
Inspirant 0 %
Inutile 0 %