منذ ما يزيد عن 40 سنة تعيش مدينة قابس تحت وطأة التلوث الذي أضر بالواحة والبحر والمياه والبشر. معضلة أساسها منطقة صناعية كيميائية تضم عشرات المؤسسات الملوثة التي غاب عنها واجب المسؤولية المجتمعية. ففي حي شط السلام حيث ينتصب المجمع الكيميائي على بعد بعض المئات من الأمتار عن المنازل تفوح روائح الأبخرة الكيميائية حاملة معها الموت الذي يختطف سكان الحي المنكوب بمعدل متسارع، وحاملة كذلك الأمراض السرطانية.
قابس والتي لقبت قديماً بجنة الدنيا باعتبارها الواحة البحرية الوحيدة في العالم التي تحيط بها الجبال والصحراء شهدت منذ أواسط السبعينات عملية تركيز للعديد من المعامل على طول الشريط الساحلي للخليج ومن أبرزها المجمع الكيميائي بغنوش وقد لقيت عملية تصنيع الجهة في البداية ترحيبا واسعا بما أنها كانت سببا في تشغيل أبناء المنطقة فقضت على البطالة المنتشرة آنذاك ومع مرور الزمن بدأت تظهر مشاكل بيئية معقدة ناتجة خاصة عن إفرازات المصانع وبالخصوص مصنع معالجة الفسفاط الذي استمر على امتداد العقود الماضية في إلقاء كميات هائلة من الفوسفوجيبس في الخليج تصل يوميا الى حدود 15 الف طن تسببت في تكون رقعة من الفوسفوجيبس تمتد على 60 كم مربع على شكل غلاف سميك أثّر على شفافية مياه الخليج وتحركها فقتل الكائنات البحرية وفي أفضل الحالات تسبب في هجرة أنواع كثيرة من الأسماك بما أدى الى القضاء على الصيد الساحلي الذي تقتات منه عديد العائلات متوسطة الدخل.
أما في الجانب الصحي و هو الأهم فقد كانت نتائج بعض الكثير من التحاليل التي شملت مختلف مناطق قابس لمعرفة نسبة «الفليور» في الجسم مرعبة وتدعو الى دق نواقيس الخطر باعتبار أنّ هذه المادة تسبب امراضا عديدة كضيق التنفس وهشاشة العظام والسرطان والامراض الجلدية بل أن تأثيرها يتعدى إلى الأجهزة الهضمية والتناسلية هذا دون اعتبار القوافل التي لا تنتهي من المرضى والموتى التي بدا واضحا للعيان أن سببها التلوث الذي ابتليت به مدينة قابس منذ إنشاء المجمع الكيميائي الذي ينفث ليلا نهار فضلات وأدخنة كيميائية جعلت شبح المرض والموت يخيم على المدينة ويخطف أبناءها واحدا تلو الآخر.هذا الوضع الكارثي يعتبره المناضلون البيئيون أبرز تجسيد لجريمة دولة تقوم على غياب الإرادة السياسية في ضمان أرواح المواطنين في قابس وتقوم أيضا على الانتهاك الصارخ للقوانين والتشريعات الوطنية والدولية التي أمضت عليها تونس ولم تجد طريقها للتطبيق.وضعية مأساوية كهذه لطالما غذت الحنق الشعبي في قابس وكانت العامل الأساس الذي دفع نحو تأسيس العديد من الجمعيات البيئية التي ساهمت ولا تزال تبذل الجهود الكبيرة في التعريف بهذه القضية جهوياً ووطنياً ودولياً وتقوم باستمرار بالتعبئة الميدانية من أجل الضغط على صناع القرار وإيجاد حل جذري لهذه المعضلة ولعلّ أبرزها حركية وديناميكية ائتلاف نحب نعيش- ستوب بولوشن
https://www.facebook.com/StopPollution2/?sw_fnr_id=1731640659&fnr_t=0 .
الذي تأسس سنة 2012 بمناسبة اليوم العالمي للبيئة من قبل مجموعة من الشباب والنشطاء.ولأن الصبر نفذ ووعود الحكومة طالت بلا نتائج ملموسة ولأن الموت أصبح حقيقة قائمة في قابس فقد أطلقت هذه المجموعة بالتنسيق مع ما يناهز 15 جمعية في قابس حراك أطلق عليه اسم ”سكّر المصبّ” للحسم في ملف ”الفوسفوجيبس” والتفت منظمات وأفراد كثيرة حول هذا الحراك الذي خلق حالة من التأهب الشعبي المنادية بالقضاء الجذري على مسألة التلوث في قابس.
هذه الحملة المفتوحة جاءت في صورة دعوة للتعبئة من أجل نقل وحدات انتاج الفوسفاط خارج مناطق العمران ويرفض المشرفون عليها كل الحلول الجزئية مطالبين بحل جذري وملحين عليه أكثر من أي وقت مضى ووضعوا لذلك خارطة عمل انطلقت بحملة امضاءات شعبية أيام 16 – 18 و 18 جوان 2017وتلتها يوم الجمعة 23 جوان ندوة حوارية بعنوان أي استراتيجيا لوقف التلوث في قابس. هذه الندوة أثثها الأستاذ عبد الجبار الرقيقي عضو المكتب التنفيذي للاتحاد الجهوي للشغل بقابس وتمحورت حول أفق التنمية بقابس في ضل وجود المنطقة الصناعية واعتماد المنوال التنموي الحالي على الصناعات الملوثة. منوال أثبت فشله وذلك بتراجع جل القطاعات المنتجة للثروة في قابس كالصيد البحري والفلاحة والسياحة. كذلك تناولت الواقع الصحي المتردي في ضرب لأبسط الحقوق الإنسانية وهي الحق في الصحة والحق في الحياة .هذا وأجمع جل الحضور على ضرورة إيجاد منوال تنموي بديل قادر على توفير أفاق جديدة للتشغيل وضرورة أن تكون كل المجهودات موجهة نحو رؤية تقوم أساساً على التخلي تدريجياً على الصناعات الملوثة وضرورة النضال ضد كل أشكال التلوث بجميع مصادره وعدم تناسي بقية المصانع الملوثة بالإضافة للمجمع الكيميائي.
الحشد الشعبي والضغط الاجتماعي تواصلا من خلال مسيرة بحرية يوم 29 جوان نظمتها كل من حملة نحب نعيش- ستوب بولوشن وجمعية حماية واحة شط السلام انطلاقا من ميناء الصيد البحري في اتجاه غنوش إلى حدود المياه البحرية المقابلة للمنطقة الصناعية.أما الحدث الأضخم فكان مسيرة 30 جوان نحو شط السلام أين تقع المنطقة الصناعية و المجمع الكيميائي.
وكانت أعداد كبيرة من المواطنين في قابس، قد خرجت في مسيرة، دعا إليها حراك « سكر المصب » لغلق مصب الفوسفوجيبس بالمنطقة الصناعية بالجهة وإنهاء سكب هذه المادة في البحر، وقد انطلقت المسيرة من أمام دار الشباب بشاطئ السلام بقابس بمشاركة مواطنين من مختلف الفئات والشرائح الاجتماعية إلى جانب ممثلين عن عدد من الأحزاب السياسية والمنظمات الوطنية، وتم خلالها رفع شعارات تؤكد أحقية أهالي قابس بالعيش في بيئة سليمة خالية من التلوث.
يذكر هنا أن مجلسا وزاريا مضيّقا انعقد و تم خلاله إقرار برنامج تفكيك الوحدات الملوثة المرتبطة بإفراز الفسفوجيبس بقابس وإحداث وحدات صناعية جديدة . ولئن أعلن حراك سكر المصب عن رفع الاعتصام الذي كان من المزمع القيام به في المنطقة الصناعية بعد قرارات الطرف الحكومي فقد اعتبر أن هذه الحلول المزمع اتخاذها مازالت تتسم بالضبابية وعدم الوضوح، وأكد على التمسك بالنضال من أجل القضاء على التلوث في قابس بكل اشكاله براً وبحراً وجواً وطالب بحل جذري لهذه المعضلة وذلك بنقل الوحدات الملوثة خارج مناطق العمران ونادى باستبدال المنوال التنموي في قابس ألقائم أساساً على الصناعات الملوثة باقتصاد بديل صديق للبيئة والإنسان و ترك المواطنون المجال مفتوحا أمام كلّ أشكال التصعيد إذا لم تفي الحكومة بتعهداتها.
Voila ce que les autres utilisateurs ont pensé de cet article