يلعب المجتمع المدني دورا رياديا في الإصلاح المجتمعي بالبلاد التونسية سواء في الميادين السياسية، أو الاقتصادية، أو الثقافية الفكرية، أو الاجتماعية… وكمواصلة لهذا الدور الإصلاحي، يتبين اليوم دور المجتمع المدني في المشهد الإعلامي أيضا ليسلط الضوء على قضية مست من الطفولة، هذه الأخيرة التي انتهك حرمتها بعض القانون. وبالارتكاز على هذا البعض الجائر من القانون، تواصل انتهاكها في أحد أكبر المنابر تأثيرا في الرأي العام: شاشة التلفزة.
الحكاية كل الحكاية:
كان يا مكان (قناة الحوار التونسي)، في أحد الأيام (يوم 14 أكتوبر)، حلقة من البرنامج الاجتماعي “عندي ما نقلك” تم بثّها، وتم خلالها توجيه إصبع الاتهام لفتاة قاصر تعرضت لمحاولات اغتصاب وعرض فكرة الزواج بأحد مغتصبيها “باش نلموها” على حد تعبير المنشط. ورغم قساوة المشهد، تبقى الحقيقة الصادمة، هي أن المَخرج اللاإنساني الذي قدمه المنشط فأثار ثورة الجمهور، هو في الأصل مخرج قانوني، أي نابع من القانون التونسي نفسه. حيث يحتم الفصل 227 مكرر من المجلة الجزائية أن: “يعاقب بالسجن مدة ستة أعوام كل من واقع أنثى بدون عنف سنها دون خمسة عشر عاما كاملة. وإذا كان سن المجني عليها فوق الخمسة عشر عاما ودون العشرين سنة كاملة فالعقاب يكون بالسجن مدة خمس أعوام. والمحاولة موجبة للعقاب. وزواج الفاعل بالمجني عليها في الصورتين المذكورتين يوقف التتبعات أو آثار المحاكمة. وتستأنف التتبعات أو آثار المحاكمة إذا انفصم الزواج بطلاق محكوم به إنشاء من الزوج طبقا للفقرة الثالثة من الفصل 31 من مجلة الأحوال الشخصية وذلك قبل مضي عامين عن تاريخ الدخول بالمجني عليها.”
ما الحل؟
طبعا من المفروض حتما أن يكون المشهد الإعلامي حاملا لقضايا الناس موجها نحو الإصلاح وإن تناقض هذا الإصلاح مع نص القانون، فيلعب بذلك دور المناصر للحقوق ومنبر تربية وتثقيف وتوعية.
كما إنّ الحديث عن دولة القانون والمؤسسات لا يستقيم أيضا، إذا لم تكن القوانين والمؤسسات في حماية الأفراد ولم تراع مصالحهم. لذلك، بات ضرورة تنقيح الفصل 227 مكرر الذي يعاقب الضحية وليس الجاني، وهو ما نادت إليه العديد من مكونات المجتمع المدني، على غرار الائتلاف المدني من أجل الحريات الفردية، في انتظار أن يجد صدى، قبل أن يتسبب هذا الفصل في انتهاكات جديدة ضد الطفولة، ذلك أنّ:
اجراء قانوني غير دستوري.
يتعارض نص هذا القانون مع ما جاء في توطئة دستور 2014، التي أكدت أن الدستور ضامن لـ “احترام الحريات وحقوق الانسان” و”المساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين”، وعلى “منزلة الانسان كائنا مكرما”، فبالعكس انتهك حق الضحية وجازى الجاني، بل وكأننا بهذا القانون يكرّمه.
كما يتعارض الفصل 227 مكرر مع جاء في بعض فصول الدستور على غرار:
الفصل السابع: الأسرة هي الخلية الأساسية للمجتمع، وعلى الدولة حمايتها. وهنا إشارة على إلزامية الدولة بالتدخل من أجل حماية الأسرة ومعاقبة كل انتهاك لثبات هذه الأسرة أو تهديد لها.
الفصل 21: الواطنون والمواطنات متساوون في الحقوق والواجبات، وهم سواء أمام القانون، من غير تمييز. تضمن الدولة للمواطنين والمواطنات الحقوق والحريات الفردية والعامة، وتهيئ لهم أسباب العيش الكريم
الفصل 23: تحمي الدولة كرامة الذات البشرية وحرمة الجسد، وتمنع التعذيب المعنوي والمادي. ولا تسقط جريمة التعذيب بالتقادم.
الفصل 47: حقوق الطفل على أبويه وعلى الدولة ضمان الكرامة والصحة والرعاية والتربية والتعليم. على الدولة توفير جميع أنواع الحماية لكل الأطفال دون تمييز وفق المصالح الفضلى للطفل
الفصل 49: يحدد القانون الضوابط المتعلقة بالحقوق والحريات المضمونة بهذا الدستور وممارستها بما لا ينال من جوهرها. ولا توضع هذه الضوابط إلّا لضرورة تقتضيها دولة مدنية ديمقراطية وبهدف حماية حقوق الغير، أو لمقتضيات الأمن العام، أو الدفاع الوطني، أو الصحة العامة، أو الآداب العامة، وذلك مع احترام التناسب بين هذه الضوابط وموجباتها. وتتكفّل الهيئات القضائية ب حماية الحقوق والحريات من أي انتهاك. لا يجوز لأيّ تعديل أن ينال من مكتسبات حقوق الإنسان وحرياته المضمونة في هذا الدستور.
اجراء قانوني يتعارض والاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها تونس مثل اتفاقية حقوق الطفل التي تنص في فصلها التاسع عضر: “تتخذ الدول الأطراف جميع التدابير التشريعية والإدارية والاجتماعية والتعليمية الملائمة لحماية الطفل من آافة أشكال العنف أو الضرر أو الإساءة البدنية أو العقلية والإهمال أو المعاملة المنطوية على إهمال، وإساءة المعاملة أو الاستغلال، بما في ذلك الإساءة الجنسية، وهو في رعاية الوالد (الوالدين) أو الوصي القانوني (الأوصياء القانونيين) عليه، أو أي شخص آخر يتعهد الطفل برعايته.”
أما بالنسبة لإعلان حقوق الطفل، فيشير في ديباجته، “ولمّا كان الطفل يحتاج، بسبب عدم نضجه الجسمي والعقلي إلى حماية وعناية خاصة، وخصوصا إلى حماية قانونية مناسبة سواء قبل مولده أو بعده”. كما يشير الإعلان في المبدأ الثاني إلى أنه “يجب أن يتمّتع الطفل بحماية خاصة وأن يمنح، بالتشريع وغيره من الوسائل، الفرص والتسهيلات اللازمة لإتاحة نموه الجسمي والعقلي والخلقي والروحي والاجتماعي نموا طبيعيا سليما في جو من الحرية والكرامة. وتكون مصلحته العليا محل الاعتبار الأول في سن القوانين لهذه الغاية.”
إجراء قانوني يتعارض مع مجلة حماية الطفل
حيث تعتبر المجلة في الفصل 21 أن “استغلال الطفل ذكرا كان أو أنثى جنسيا، بوجه خاص من الحالات الصعبة التي تهدد الطفل أو سلامته البدنية أو المعنوية”.
وبالإضافة لهذه الترسانة القانونية المرجعية التي ذكرناها على سبيل الذكر لا الحصر، والتي تتعارض والفصل 227 مكرر من المجلة، فإن المجلة الجزائية نفسها، وفي نفس الفصل تعترف بأن المقترف للجريمة هو جان والضحية مجني عليها. فليس من المعقول أن نكون أمام جناية يعاقب فيها الضحية المجني عليه. خصوصا قد سبق وأكد أخصائيو النفس أن تزويج القاصر من مغتصبها هو خطأ وخطر من شأنه أن يؤدي إلى اختلال توازن شخصية البنت المتضررة مما يسهم في اضطرابات نفسية جسيمة تضر بالطفلة، بالأسرة وحتى بالمجتمع ككل. وهو ما يفسر أنه قد بات من الضروري مراجعة هذا الفصل حتى لا نشهد بعد اليوم أن يكون انتهاك الطفولة مقننا.
هذا المقال منشور بالجريدة المدنية
هكذا قيّم مستعملون آخرون المقال