لم تعد عملية التعلم اليوم تقتصر على التدريس أو البحوث الفردية لغاية التثقف فقط، وإنما هي فائدة تحدث أيضا كلما كانت تشاركية وقائمة على تبادل الأفكار والمعلومات. بل وأكثر من ذلك، يقتضي التعلم أن يقف المرء على مكتسباته المعرفية وتحليلها والتثبت منها والقدرة على الدفاع عنها بالحجة والبرهان القاطع. وكلما تقدمنا في بحثنا عن سبل التعلّم نجد أنه من الممكن أن يصل المرء بانفتاحه المعرفي حد التخلي عن أفكاره المسبقة وتطويرها أو تغييرها إذا ما اتضح له يوم أنها ليست بالإقناع الذي كان يتصورها عليه.
فالتناظر بصفته شكلا من أشكال التعلم يسمح للفرد أن يطور معارفه ويوسع من ملكة التفكير النقدي لدى المتناظر. ولعل الوعي بقيمة التناظر هو ما دفع العديد من الشباب نحو الاقبال على نوادي المناظرة. وقد لاقت هذه الأخيرة أي نوادي المناظرة رواجا كبيرا في صفوف شباب تونس ما بعد الثورة، خصوصا وقد افتك التونسيون والتونسيات حقهم الشرعي والمشروع في حرية التعبير، وأتيح لهم مناقشة ما أرادوا من المواضيع الدينية والسياسية والايديلوجية وغيرها من ديون قيود. ويفسر هذا الأمر بروز العديد من نوادي المناظرة التي يفجر فيها الشباب طاقاتهم إبداعا في فنون الخطابة، ولعل من بين إحدى أهم التجارب نجاحا في هذا المجال في تونس نذكر تجربة صوت الشباب العربي Young Arab Voices. هذا البرنامج الذي تم اطلاقه في تونس منذ 2011 من قبل المجلس البريطاني ومؤسسة آنا ليند، فجذب إليه التلاميذ واستقطب الشباب على حد سواء ليتعلمو فن التناظر وليشاركوا في مناظرات جهوية ووطنية وحتى اقليمية باعتبار صوت الشباب العربي يعد برنامجا رائدا في منطقة شمال افريقيا والشرق الأوسط. ومثل الشباب التونسي سر نجاح البرنامج وسر ريادة التجربة التونسية عربيا، حيث استقطب المنوال التونسي ما يفوق الـ 10000 شابا بهذا البرنامج منذ انطلاقه إلى اليوم.
الجديد بخصوص برنامج صوت الشباب هو إمضاء اتفاقية شراكة بين المجلس البريطاني ووزارة التربية بتونس، في 16 سبتمبر 2016. ويعد ذلك خطة تجاه مأسسة نوادي المناظرة، وفرصة للتلاميذ للتعرف على أسس التناظر الأكاديمي المعتمد من قبل بعض النماذج الناجحة عالميا داخل مؤسساتهم التعليمية وبالتحديد المعاهد الثانوية. وقد التزمت الوزارة في هذا الشأن بالسماح لأي معهد ثانوي بافتتاح نوادي مناظرة وذلك بمنح التراخيص للأساتذة بإنشاء النوادي وسيتولى الأساتذة أنفسهم مهمة التنسيق فيها. وبدوره، سيتولى المجلس البريطاني توفير المدربين التابعين لبرنامج “صوت الشباب العربي” وكذلك بتدريب المنسقين على إدارة نوادي المناظرة بالمعاهد وبتدريب التلاميذ على مهارات المناظرة. وينتظر أن يتواصل تنظيم مسابقات التناظر والمناقشات المفتوحة والبطولات الوطنية والإقليمية والدولية. وبذلك، يعود مثل هذا التعاون المنصوص عليه بالاتفاقية بالنفع على التلميذ بدرجة أولى وأهم حيث يسنى له تحسين مهاراته اللغوية في الانقليزية و/أو العربية حسب الاختيار. كما ستتوفر له مساحة للحوار والنقاش والتواصل والالقاء والبحث والعمل ضمن فريق. هي بادرة طيبة تكون فيها المؤسسة التعليمية مدرسة حقيقية للتلميذ تغرس فيه مبادئ التحاور وقبول الاختلاف وتجعله قادرا على مناقشة قضايا الواقع وتعده للقيادة.
وبناء على رغبة الشباب، سبق أن تواجد برنامج صوت الشباب العربي بـ 14 معهدا ثانويا. واليوم، تم الشروع في قبول مطالب إنشاء الأساتذة للنوادي بالمعاهد، على أمل أن تتوسع التجربة هذه السنة الدراسية ويتم تأسيس نوادي بأكبر عدد ممكن من المعاهد بكامل تراب الجمهورية سواء كان ذلك في المناطق المهمشة أو الأقل تهميشا. إجراء من شأنه أن يكون من بين الإصلاحات التي تحتاجها المنظومة التربوية بتونس والتي سبق أن لعب فيها كل من الاتحاد العام التونسي للشغل وشبكة عهد دورا كبيرا. كذلك الشأن بالنسبة للتعليم الجامعي الذي من المحبذ أن ينسج بالمثل ويسير نحو تعميم التجارب الثقافية الناجحة على غرار نوادي صوت الشباب العربي في المناظرة في المؤسسات الجامعية عسى أن تكون الكلية فضاء يرقى بالطالب التونسي حق ارتقاء.
هكذا قيّم مستعملون آخرون المقال