منذ استقلال البلاد و مرورا بالهبة الثورية التي عرفتها تونس ذات 17 ديسمبر كان الرهان و لازال على الثروة البشرية في تونس الخيار الأهم الذي يبقي أو يطيح بمختلف الحكومات المتعاقبة خاصة في ظل ندرة الموارد الطبيعية الكفيلة بتحقيق التنمية المطلوب
و لعلّ أحد أهم مؤشرات النهوض بالموارد البشرية هو رصد الاعتمادات الكافية و ايجاد الحلول اللازمة لقطاع التربية و التعليم. و قد حققت الدولة التونسية على امتداد ما يقارب ال60 سنة أرقاما محترمة فيما يتعلق بمؤشرات نسب التمدرس و القضاء على الأميّة و قطعت اشواطا كبيرة في درب امتلاك المعارف و المهارات التي تعدّ الناشئة لحياة مهنية محترمة
غير انّ الكثير من المشكلات التي تعاني منها المنظومة التربوية في تونس ما فنئت تطفو على السطح باستمرار و لعلّ اكثرها خطورة على الأطفال اليوم و على المجتمع باكمله هي صعوبة منع تسرّب التلاميذ نتيجة ضعف أليات مواجهة الانقطاع عن الدراسة الناتج عن ظروف اقتصادية و اجتماعية صعبة و قصور في العمل التشاركي بين جميع المتدخلين للوقاية و العلاج و انتشال المتسربين و المنقطعين من المخاطر و المهالك التي سيواجهونها اثر تركهم لمقاعد الدراسة .
100 الف منقطع عن التعليم سنويا
رغم تطور المنظومة التعليمية في تونس تبقى معضلة الانقطاع المبكر عن الدراسة من أهم الهواجس التي تشغل اهتمام أهل الاختصاص والمشرفين على قطاع التربية اذ بلغ معدل الانقطاع المدرسي ما يقارب ال 100 الف منقطع سنويا و هو معدل ضخم بالنظر الى المجهودات المبذولة .
ولقد توصّلت الدراسات التي تناولت ظاهرة الانقطاع المدرسي إلى أن الانقطاع عن التعليم في تدرج من المرحلة الابتدائية إلى التعليم الثانوي حيث ارتفع من 1.2 بالمائة إلى 10 بالمائة حاليا. وترتفع نسبة الانقطاع المدرسي في التعليم الابتدائي خاصّة لدى تلاميذ السنوات الخامسة والسادسة وفي مستوى التعليم الإعدادي تتمركز بالأساس في السابعة أساسي بنسبة 30 بالمائة.
هذا و تصل كلفة الانقطاع المدرسي الى ما يقارب ال345 مليون دينار سنويا و تتوزع هذه الخسائر على اكثر من 137 مليون دينار كلفة الرسوب و 207 مليون دينار تكلفة الانقطاع .
الانقطاع عن الدراسة ظاهرة مركبة أسبابها متعددة ومتداخلة
ان الانقطاع المدرسي مشكل يتعدّى تأثيره الفرد ليشمل المجتمع والاقتصاد فهو يؤدي إلى انتشار الأمية و البطالة والجريمة في المجتمع و يهدر الموارد المالية للدولة لذلك مثل ايجاد حلول لهذه الازمة هاجسا كبيرا . و لأن نصف الحلّ هو تشخيص الأمر فأن العودة الى اسباب الانقطاع المدرسي ضرورة ملحّة و فيما يلي البعض من أهم الأسباب.
تداخل كبير بين الأسباب النفسية و الاجتماعية و الاقتصادية
تغير سلم القيم اليوم وتراجعت مكانة التعليم في الأذهان خاصة مع تراجع المنفعة الاقتصادية للدراسة باعتبار تزايد عدد العاطلين عن العمل من ذوي الشهادات العليا، وهو ما يجعل نسبة لا بأس بها من الأطفال تترك المدرسة و تندمج مبكرا في سوق الشغل. كما تراجع دور المدرسة في تقديم وظيفتها التعليمية و ضعفت العلاقة الاتصالية بين المدرسة والأسرة مقابل بروز مصادر جديدة للتعلم وترسخ قيم اجتماعية أخرى ترتكز على الثراء السهل والشهرة خاصة عند ربطها بتعرض الطفل المراهق إلى اضطرابات نفسية في مرحلة عمرية حساسة و ربطها ايضا بتغير مفهوم الرعاية الأسرية في ظل عمل الأولياء والضغط الزمني للعائلة وقلة ومراقبة الأبناء في دراستهم ومواظبتهم وتوفير الظروف الأسرية والاجتماعية الملائمة لهم .
إذن خلاصة الأمر تكمن في أن الوضع الاجتماعي للتلميذ يلعب دورًا فاعلاً في تدعيم العملية التربوية نظرًا لأهمية العامل السوسيو-اقتصادي. وإن العائلات التي تعاني من الخصاصة والحرمان تدفع بأبنائها إلى ترك الدراسة وتضطرهم للعمل لمد يد العون لها دون التفطن الى النتائج النفسية الوخيمة التي ترافق هذا التحول المبكر في حياة الطفل و المراهق
أسباب تعليمية – بيداغوجية
تتمثل جملة هذه الأسباب في كون التلميذ المراهق قد يعاني من ضعف المستوى وليست لديه القدرة على مواكبة البرنامج الدراسي فيتجه نحو الغياب المتكرر كنوع من أنواع الهروب من فشله الدراسي. هذه الغيابات المتكررة مع عدم رقابة الوالدين قد تدفع بالمراهق إلى اتخاذ قرار خطير يتمثل في الانقطاع عن الدراسة نهائيا لإنهاء معاناته من هذا الواجب الثقيل على نفسه وعلى قدرته الذهنية والفكرية. ومن الأسباب الأخرى في هذا المجال ايضا عدم استعمال الوسائل التعليمية التي تجذب انتباه التلميذ خاصة في المواد الفنية والتكنولوجية وفي تدريس اللغات وغيرها اضافة الى ضعف طرق وأساليب التعليم ثم مضامينه ومحتوياته، فالتعليم يجب أن يسعى إلى إعداد المتعلم للحياة وليس إلى تلقينه مجموعة من المعارف والمعلومات النظرية البعيدة عن محيطه وبيئته وحياته.
أسباب سياسية
تتمثل أساسا في تأخر إصلاح التعليم وضعف في البرامج وتكرار أساليب الترقيع وإسقاط سياسات فاشلة على الساحة التربوية بالإضافة إلى التركيز على الأشكال والمظاهر والأرقام والإحصائيات والواجهات والشعارات وإهمال المضامين والقيم والمعايير والأفكار والبرامج الثرية وخاصة التباهي الأجوف بالنسب والأرقام في العشرية الأولى من الألفية الثانية.
البحث عن الحلول من خلال الاتفاقيات الدولية
من منطلق القضاء على معضلة الانقطاع المبكر عن الدراسة وبناء على العديد من القضايا الملحة الأخرى بدت الإصلاحات المتصلة بالعملية التربوية أمرا ملحّا ولا سيما في ظل تنامي الانتظارات المجتمعيّة اذا ما تمّ ربط الإصلاح التربوي باستحقاقات مجتمع يتحرر من الاستبداد ويبحث عن منوال تنموي بديل سعت وزارة التربية الى ايجاد حلول مختلفة منها ما يعتبر جذريا فعالا و منها ما اتفق الجميع على اعتباره حلولا وقتية تحتاج الى عمق اكبر حتى تعطي اكلها .
و لعلّ آخر الخطوات التي جاءت لايجاد حلّ لظاهر الانقطاع المبكر هي اتفاقية الشراكة و التعاون المدرسي التي امضتها وزارة التربية مع سفارة ايطاليا بتونس والوكالة الايطالية للتعاون والتنمية بتونس ومنظمة اليونسيف خلال الشهر المنقضي (8 سبتمبر 2016).
و بموجب هذه الاتفاقية تتمتع وزارة التربية التونسية بما يتجاوزال6 مليارات من المليمات تحديدا 2360 الف يورو.وفي هذا السياق كان وزير التربية ناجي جلول قد افاد مسبقا بأن وزارة التربية تشكو من قلة الموارد باعتبار ان 97 بالمائة من ميزانية الوزارة تتجه لصرف الأجور في حين تخصص 3 بالمائة المتبقية لعملية الإصلاح و البناء و بذلك تعتبر هذه العائدات المالية انعاشا للميزانية ودعما لبرنامج مقاومة الانقطاع.
هذا التعاون الذي سيمتد الى حدود سنة 2018 يهدف الى معاضدة المجهود الذي تبذله تونس للتصدّي لهذه الظاهرة و ضمان عدالة اكبر في المنظومة التربوية خاصة من خلال التدخل في الجهات المحرومة و تمييزها بميزانية مالية اكثر .
و حسب ما جاء في تفاصيل هذا البرنامج أن التدخل سيشمل تحديدا ال19 ولاية التي ترتفع بها نسب الانقطاع أكثر من غيرها و تمّ وضع قائمة بها 34 مؤسسة مدرسية تعتبر ذات أولوية قصوى لدعمها بصفة عاجلة .
هذا و سيعمل الخبراء القائمون على هذا البرنامج على وضع نماذج تمكّن الدولة التونسية من اتخاذ إجراءات وقائية لتقليص عدد المغادرين للمدارس سنويا من خلال النظر في رصد إعانات اجتماعية و العمل على تطوير التجهيزات المدرسية و البنية التحتية.
كما وضعت خطّة أخرى لمحاولة استرجاع اكبر عدد ممكن من التلاميذ الذين انقطعوا عن الدراسة من خلال تمكينهم من العودة بسهولة و تذليل العقبات الإدارية التي قد تحول دون ذلك أو من خلال إدماج من لم يتسنى لهم ذلك في الحياة الاجتماعية عبر آليات تكوينية تشغيلية.
المصادر والمراجع
1.المخطط الاستراتيجي القطاعي التربوي 2016-2020 الصادر عن وزاره التربية
- موقع وزارة التربية
www.education.gov.tn
3.تقرير عام حول العودة المدرسية الصادر عن اللجنة الوطنية للعودة المدرسية بوزارة التربية سبتمبر 2016
- الدراسات والتخطيط والاحصاء التربوي :معطيات ومؤشرات القطاع بالنسبة للسنة الدراسية 2015-2016
- تقرير معهد الإحصاء التابع لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلـم والثقافـة الصادر في 2013
برنامج وزارة التربية في تنفيذ الخطة الوطنية لتطوير كفاءات الموارد البشرية.6
تيسير عباس : المقاربة السيكولوجية للانقطاع المبكر
Voila ce que les autres utilisateurs ont pensé de cet article